ومنذ أكثر من ربع قرن، كسرت إحدى الشاعرات الشعبيات (وهم النخبة)، مؤكدةً أن فهم السياسة وتحليل معطياتها ليس حكراً على طائفة من الذكور، الذين يجيدون ترتيب وتنسيق المصطلحات، دون غيرهم، وبرغم أن قوات التحالف الدولي في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم لم تبدأ عملية تحرير دولة الكويت الشقيقة من احتلال النظام العراقي، إلا أنّ شاعرتنا سبّقت بالبشارة، وصَدَقَتْ في قراءتها للمشهد، وقالت في لعب نسائي: (وجا مع جيمس بيكر دولة مستقلة)، وقد كان، وفي هذه القفلة للقصيدة معنى مُضمر يُعلي من شأن العروس، غير المعنى السياسي الظاهر، وكانت هذه الشاعرة أوّل محلّلة سياسية تصح نبوءتها، برغم أن معظم النساء اللواتي يلعبن لا يعرفن (جيمس بيكر) ولا يدرين عن الدور الذي لعبه في تلك الحقبة.
وفي مشهد حواري من مسرحية «المتزوجون» يسأل الفنانُ (جورج سيدهم) الفنانَ (نجاح الموجي): «قل لي يا واد يا مزيكا، تعرف إيه عن سياسة الوفاق؟» فيجيبه: «يعني يا بخت من وفّق بين رأسين في الحلال»، فيعلّق حنفي: «دي سياسة أمك».
للسياسة أبطال ولها ضحايا، ولها باعة ومُشترون، وسماسرة، وربما انطبق على الحبك السياسي ما ينطبق على الشِّعر من فتلٍ ونقض، ومن الخطأ أن يثق مُحلّل بنفسه حدّ ادّعاء العلم بما يُعدّ في مطابخ السياسة من وجبات غير قابلة للهضم، فالغور بعيد؛ والاعتبارات تزيد وتنقص؛ ما يعيدنا لشِعر النقائض خصوصاً قول جرير:
ويقضى الأمر حين تغيب تيمُ
ولا يُستأمرون وهم شهود
ومن أعاجيب البعض تناوله قضايا السياسة الموغلة في الغموض على أنها غاية في الوضوح، ويطرح وجهة نظره، التي يتردد في طرحها فطاحلة وزراء الخارجية، بكل ثقةٍ في معلوماته؛ وربما لا يتجرأ الخبير في الشأن السياسي على قول ما يقوله بعض الشعبيين والعوام، علماً بأن ما يقدمه المحلل السياسي ربما كان تحليلاً موجّهاً، لا يمت لواقع الأمر بأي صلة، فهو يخمّن، ويرجح كفة رأي، يُحسب له، أو في أسوأ الأحوال ما يحسب عليه.
لا خلاف على أن ميدان السياسة ليس ملعب كرة قدم تقام فيه مباريات بين فرق وأندية ترى منهم وجوه الإيجابية والسلبية، وليس مضمار عدائين تتابع الأسرع والأبطأ، فهناك الكثير مما يُدار بين الدول تحت الطاولة، وفي الغُرف المُظلمة، و لا يُعلن عنه إلا عقب عقود من الزمان، ولذا عندما نعود لتحليل المحللين في قضية (ووتر جيت) أو (إيران جيت) وغيرهما من قضايا مرّت علينا، ندرك أن البون شاسع بين التحليل والتسييل السياسي.
ومما انكشف مؤخراً أنّ أحد الزعماء العرب الراحلين، الذي كان يشتم الأمبريالية، لم يكتفِ بتعليق صورة (كوندليزا رايس) في غرفة نومه، بل كتب فيها قصيدة غزل، مستوحاة من قصيدة عنترة بن شداد التي عبّر فيها عن رغبته بتقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرها المتبسّم، ما دفع آخر زوجاته الشرعيات إلى التوجه للقبلة وصبّ الدعاء عليه، بالويل والثبور، وبسوء المصير، كونه كسر قلبها بقصة عشق، مواهب أطرافه غير متكافئة.
وكم من دول أشعرنا محللوها العجم والعرب بأنها قادرة على تدمير العالم بضغطة زرّ، وسرعان ما انكشف السرّ، وغدا حماها مستباحاً، فالبلاد التي تسقط طائرة الرئاسة فيها بسبب الافتقار إلى الصيانة دولة يُرثى لها أكثر مما يُخشى منها، وربما الذي ضخّم قدرات صدام حسين ليغدو ضحية في العيد الكبير هو ذاته الذي بالغ في تفصيل ثوب أكبر من حجمه.
تقول قصة واقعية؛ بأنّ موظفاً ظلّ يحلم بسماع كلمة إطراء من زميلة عمل، وكان يعتني بها صباح مساء، وعندما اقترب منها يوماً ليسمع شكراً، أو كلمة ما قصّرت، قالت: «غطّوا بك لأم التخوم (الوجه وجه الضبّ، والمؤخرة مؤخرة الدُّب)»، فانهارت أعصابه، وغاب عن العمل أياماً؛ منهكاً بسبب هذه الإهانة، وشاءت الأقدار والظروف أن يترقّى وصار رئيساً لها فغدت تغنّي له كلما شافته أو دخلت عليه بصوت جهوري (يا مليح القفا وحلو التثني، وجميلاً جماله كم فتنّي)، بالطبع كان يعلم أنها تنافقه، ومن باب استهلاكها كان يبدي لها بعض الرضا المُصطنع.
ومن ذكريات طلبة جامعة، أن زميلين نزلا إحدى الأسواق في محاولة اختبار مهاراتهما في اصطياد قلوب العذارى والخبيرات، وكان الجريء منهما قصير القامة، فغمز لإحدى السيدات، فقالت لزميله الأطول (خذّ المقفّص للبيت حان موعد رضاعته، وخله يشوف نفسه في المراية نصه قفيز ونصه....). وصار ذلك القصير من يومها شاباً تقيّاً، لا يرفع نظره إلى سيدة، وإن كانت النظرة الأولى مباحة، فنسأل الله له الثبات.
لا أتصوّر بحال أن كل كاتب أو مُحللّ سياسي يستطيع أن يعبّر بصراحةٍ تامة عن قرار بلد، ولا سياسة قيادة، ولا مشاعر مسؤول، لأنّ المعلومة ليست متوفرة، وكثير من المحللين لم تُصب تحليلاتهم؛ فتذرّعوا بأنهم لا يعلمون الغيب، ولا يضربون بالودع، وبهذا لا نستطيع محاججتهم ولا محاكمتهم برغم أنهم ضحّوا بأبرياء، وخدعوا شعوباً بالشعارات المهترئة.
ويمكن أن نُسلّم بواقع أدبياتنا العربية العامرة بالتناقض في المواقف والمشاعر، وحقاً (ما كل مُعلن صح، ولا كل خافي غلط) والسياسة «فن الممكن»، وهذا يعني أن التلميح أبلغ من التصريح أحياناً وأسلم، ومحتوى الطرح يخضع للنسبيّة، إذ لا مجال للقطعيّة، بل استشراف المآلات، وتوقع المخرجات، خصوصاً أن معظم المحللين ليسوا على صلة وثيقة بالسياسيين كما في عقود مضت، حين كانوا سمناً على عسل.
تلويحة: التوقّعُات لا تُلغي الواقع ولا تُبلسم جراح الوقائع.
![](https://www.mn2ol.com/content/uploads/2020/12/16/7caa1a0255.png)
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر منقول وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.