أقول هذا؛ وقد استقبل هاتفي مقطعًا لـ«أحدهم»، وقد جلس على مقعد الوعظ والإرشاد يحاضر طائفة من النّاس، أغلبهم في طرّة الشباب، ومقتبل العمر، وقد ساق لهم الحديث عن الجنّة، فلم يحدّثهم عن القطوف الدانية، ولا الأنهار الجارية من خمر وعسل ولبن، ولا طاف بهم على الاستبرق والسندس والديباج، ولا جاء ذكره على الرحيق المختوم، ولا أيّ شيء من تلك الملذّات التي وُعد بها المتقون والطائعون؛ وإنّما قفز بهم إلى «الحور العين» بالزانة، فجعل يفحش في الوصف، ويمعن في التفصيل، عن بياضهن، وقوامهن، وشعورهن المتدلية من السّماء إلى الأرض، وصفاء أجسامهن حتى ليكاد الباصر يرى مجرى الدماء في عروقهن، يقول ويقسم ويهتز ويغير نبرات صوته والله إن سرير الحورية الواحدة بعرض السماوات تستقبل به المؤمن في جماع لا ينتهي. والصبية من حوله «يشربون» كلامه بشغف، فقد وقع على جرح يلذّ لهم - بحكم السنّ - أن يستطيبوا حكّيه، فتدلّت الأفواه من فرط الشبق، وبلغت بهم النّشوة مبلغها، عندما جاء «الشيخ الواعظ» على لحظة الجماع، فما تركها دون إثارة، فذكر - ممّا ذكر – أنّ لكلّ واحد سبعين حورية، كلهنّ أبكارًا، يقع عليهن المحظوظ في لحظة جماع تمتد إلى سبعين عامًا، وكلّما انفضَّ خاتم واحدة منهن عادت بكرًا تنتظر دورها بعد السبعين، فتعالت الضحكات والابتسامات، وازدحمت القاعة بالتصوّرات الجنسية والخيالات التي ملأت خواطر اليفّع شبقًا، يفضي بصاحبه إلى واجب الغسل المفروض، وما زاد على أن ختم بدعاء أن يعينهم الله جميعًا على هذه «الفتوحات» المباركة، و«الغزوات» الميمونة..!
إنّ من حقّك أن تسأل هذا «الواعظ» عمّا بقي له من الوقت وقد أنفق سبعين سنة مع حورية في لحظة جماع واحدة، وقضى منها الوطر، ونال المراد، ثم أعقبها بالأخرى، وهكذا حتى ينتهي من الحوريات السبعين الموعود بهن، ثم يعدن أبكارًا، ليواصل «صاحبنا» ويعاود الكرّة في فتوحاته بعزيمة واجتهاد، فمتى سيفرغ لأنهر الخمر والعسل واللبن، ولحم الطير، وكلّ المشهيات الأخرى، حسب وعيه الحسي المأزوم، الذي لا سبيل إلى اختراقه، ولفت انتباهه لهيبة المكان، وعظمة الساعة، وعلو همّة من ارتفع عن المطامع إلى الغايات الأسمى في جلال الرضا وحسن القبول، وتعلّق قلبه برجاء صحبة النبي الأكرم، صلّى الله عليه وسلّم، والصديقين والشهداء والنّظر إلى وجه الحقّ جلَّ وعلا، في أعلى مراتب الفضل والجزاء الأعم..
إنّ مثل هذا الخطاب ابتلينا به في زمن «الصّحوة» المأفون، والدعوة إلى الجهاد المزعوم، فكانت الحور العين هي «السّلعة» الرّائجة لاستمالة الشباب، بما يكشف طوايا من قادوا شباب الوطن إلى تلك المحارق، فما حدثوهم إلا بالذي يرغبون في الحصول عليه بحكم نوازع المراهقة، وما أغروهم إلّا بالذي إليه تميل نفوسهم طبيعة وجِبلة، فكانت تلك المخاتلة التي أُزهقت فيها الأرواح، وذهبت فيها الأنفس بدداً وتركت في قلوب الوالدين حرقة وألماً، ومن عجب أن يظلّ هذا الخطاب حاضرًا في يومنا هذا، مُسيّئًا للجنة، ومدنسًا لها بهذه التصوّرات الحسية، التي حاشا أن تكون مقصد الله من إباحتها للمتقين العابدين الموحّدين، وإن شئت أن ترى المقابل لذلك؛ فانظر إلى ما وردني منسوبًا إلى شيخ فاضل عن الجنة بقوله: «الجنة بالنسبة لي ليست مجرد حقيقة قادمة فقط؛ إنّها المواعيد التي تم تأجيلها رُغمًا عني، والأماكن التي لا تستطيع الأرض مَنحي إياها، إنّها الحب الذي بخلت به الدنيا، والفرح الذي لا تتسع له الأرض، إنّها الوجوه التي أشتاقها، والوجوه التي حُرمت منها، إنّها نهايات الحدود، وبدايات إشراقات الوعود، إنّها استقبال الفرح، ووداع المعاناة والحرمان»..
ويستطرد مضيفًا: «الجنة زمن الحصول على الحريات؛ فلا قمع ولا سياج ولا سجون ولا خوف من القادم والمجهول، إنها موت المُحرمات، والمَمنوعات، والسُلطات، والملل، والتعب، واليأس، وموت الموت نفسه.. في الجنة لن نفترق، ولن نخاف البعد ولا الموت ولا الظروف ولا السفر.. في الجنة لن نغار، ولن ننام، ولن نتعب.. فى الجنة لا بكاء، ولا جروح، ولا دموع، ولا ألم، لا فقر، لا احتياج.. في الجنة ستموت خُصيلات الشّيب، وهالات العين، وإجهاد السهر، ودموع الحنين، في الجنة سنكون أجمل بكثير، في الجنة سنرى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم.. فى الجنة سنرى الله جلّ وعلا، وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة»..
هذا التصوّر الروحاني للجنّة ينسجم تمام الانسجام مع روح الأدب والتأدب، وجدير بأن يتوطّن قلب كل موحّد موقن، لم يُسلّع عبادته بجنة، ولم يؤدِ فروضه لغاية إلا حسن القبول، وسماحة الرضا، ورجاء العفو الكريم.
وفي القرآن الكريم وصف شامل لكل مباهج الجنة ونعيمها دون إسفاف المرضى المهووسين بالجنس.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر منقول وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.