كانت الشمس تتوسط كبد السماء مع نهار الأحد حين وصلت إلى باب «أبي الجنود» بعد أن قطعت نحو 4 ساعات بالقطار من مدينة الدار البيضاء إلى مدينة فاس المغربية العتيقة قاصدا الوصول إلى أول جامعة في العالم «جامع القرويين»، الذي بنته فاطمة الفهرية «أم البنين» في عهد دولة الأدارسة، في رمضان سنة 245 هجرية (859 ميلادية).
على باب «أبي الجنود» بدت المدينة وكأنها لوحة كبيرة كل زاوية منها تخطفك باتجاه دون الآخر رغم تناسقها، فلا يمكن تحديد وجهتك هنا دون الاستعانة بأحد أبناء المدينة، إذ إن شوارعها المكتظة بالعطور والصناعات التقليدية ومواد التجميل تخفي ملامح الشوارع إلى حد ما... سألت أحد الشباب «منين أروح لجامعة القرويين»، رد تلقائيا «أنت من مصر» وابتسم وكأنه قابل أحد رفاقه بعد غياب لسنوات، تبادلنا الحديث سريعا، وكنت أحاول أن أحدثه بالمغربية... بعدها قرر ألا يتركني إلا أمام المسجد، وخلال الطريق سألني عشرات الأسئلة عن مصر، شملت الفن والحضارة والتاريخ وكل شيء حتى ظننت أنه يعيش بحواري وأزقة مصر، ويعيشها مراحلها وتقلباتها السياسية والفنية والتاريخية.
سألته حينها: هل كل المغاربة يعرفون كل هذه المعلومات عن مصر، وكيف عرفت جنسيتي من جملة واحدة...رد:«ومين ما يعرفش كل حاجة عن أم الدنيا، نعرف المصريين حتى وإن لم يتكلموا.. نعرف عن مصر أكتر من أي دولة تانية وأكتر من المصريين»، وحملني أحمد الفاسي حينها رسالة قبل أن يودعني أمام المسجد «أذكرني عند النيل وعند الحسين والأزهر والأهرامات». كانت هذه وصاياه وأنا أغادر فاس التي سأكتب عنها في قصة منفصلة.
في المغرب لن تشعر للحظة أنك في بلد غريب ولا بين غرباء، هنا تجد رائحة القاهرة القديمة وشارع المعز والغورية، في كل المدن العتيقة بالمغرب، تجد تاريخ مصر على لسان كل مغربي يرافقك داخل قطار أو يصادفك في أي شارع.
ابن بطوطة ووصف مصر
في وصفه لمصر حين زارها قال ابن بطوطة: «أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجال، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها».
قطعة من الفردوس
حين قرأت عن ابن بطوطة وأنا في السادسة عشر من عمري لم يخطر بباطن عقلي حينها أني سأزور موطنه ومتحفه في طنجة، وأتنقل بين بعض مدن بلاده الخضراء التي تستحق كل مدينة منها عناء السفر والترحال... المغرب بلاد يفوح مسكها وعنبرها من فوق سحاب مملوءة بماء الورد، أرض ينبت من طينها ثمار الجنة، ريحها وريحانها، هواها وهويتها، في وجوه ناسها مودة أهل الجنة، وبوح ألسنتهم طيب الكلام، وفي كرمهم كأنك على موائد الله. حدائقها وجبالها قطعة من الفردوس تزينها شقائق النعمان، ونرجسها البهي. أقحوانها الذي يسر الناظرين، وحرير زهورها التي اختص بها به المغرب دون غيره من سائر الأقطار...المغرب باب لا يغلق في وجه قاصد، بلاد إن لم تسكنها تسكنك، فلا أحد يمر منها إلا وأصيب بداء العشق...المغرب لوحة سيريالية من صنع الخالق.
في الرحلة إلى المغرب منتصف مايو/ آيار 2022، كانت المهمة رسمية لحضور الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي ضد داعش بمدينة مراكش، وشاء القدر هذه المرة، أن أمدد الرحلة بضعة أيام... تجولت فيها بأكثر من مدينة تركت كل منها عظيم الأثر والشغف للعودة لها مرة أخرى.
لأجل مصر
لم يكن من باب الصدفة، أن يتكرر ذات الموقف مع ضابط الجوازات أو مسؤول الأمن بالمطار الذي يطالع جواز السفر، ففي كل مرة أجد نفس المواقف حين يطالع المسؤول جواز السفر فيرد مباشرة: «يا مرحبا بأم الدنيا وناس أم الدنيا»، ابتسامة من القلب تجعلك أكثر سعادة، وسرعان ما يغمرك الفرح حين يبدأ حديثه باللهجة المصرية التي تزينها «اللكنة» المغربية، ويتعمد استغراق مدة أطول في فحص جواز السفر لا من أجل التأكد من شيء سوى أنه يريد الحديث معك كمصري أطول فترة ممكنة ويسألك عن كل شيء يعيش بمخيلته عن مصر التي يحبونها حد القدسية.
ساعات البراق لا تنسى
في المقعد رقم 87 بالبراق المتجه نحو طنجة «عروس الشمال» من الدار البيضاء، جلست وأنا أنتظر أن يتحرك البراق الذي يستغرق نحو الساعتين وعشر دقائق. قررت أن أنتهز الفرصة لأشاهد كل المدن والقرى التي يمر عبرها القطار السريع، لكن جرس الهاتف كان له رأي آخر بعد دقائق، وما إن أتممت المكالمة باللهجة المصرية، وجدت كل الأنظار تتجه إلي بانتباه شديد، خشيت حينها أن أكون قد تحدثت بأي مصطلح مصري له دلالة أخرى لديهم من شدة انتباه الجميع، لكن لا أعتقد... أنا أفهم المغربية جيدا...قطع هذا المشهد الصامت أحدهم وسألني: أنت مصري، أجبته بنعم.
منذ تلك اللحظة نسيت النافذة التي كنت أجلس بجوارها لأشاهد الطريق وتفرغت كي أجيب عن تساؤلات كل من يجلس أمامي وخلفي وعن يساري... هم يحفظون الفن المصري بدرجة كبيرة، ويعرفون أسماء الشوارع والمدن بصورة مدهشة، بل إنهم يحفظون أسماء الأعمال الدرامية والسينمائية لدرجة ستشعر معها بالفخر والاعتزاز، حينها أيقنت بشكل أكبر من كل تصور أهمية القوة الناعمة والفن...أذكر جيدا تلك السيدة التي كانت قبل دقائق «تهضر بالمغربية» تتحدث باللهجة المغربية وحين بدأت بالحديث عن مصر شعرت وكأنها مصرية تحفظ الأماكن بدقة وتجيد اللهجة المصرية بدرجة كبيرة ظننت أنها عاشت في مصر فترة، لكنها أخبرتنا أنها زارت مصر لمرة واحدة فقط، وسردت العديد من المواقف التي مرت بها خلال وجودها بشغف وكأنها تستحضر مشاهد تريدها أن تعود مرة أخرى، ففي وصفها لغة اشتياق وحنين واعتزاز. تذكر حينها تلك الفتاة العشرينية التي تطوعت لتعرفها على شوارع مصر القديمة ومعالممها وشارع المعز لدين الله الفاطمي بعد أن عرفت أنها مغربية.
الجالسون على مقاعدهم جميعا بجوارنا تركوا أحاديثهم الثنائية وبادروا بمشاركتنا الحديث، شعرت حينها أننا نجلس على مقهى شعبي في حارة قديمة أو زنقة عتيقة هنا أو هناك، منهم من يسأل عن التاريخ ومنهم من يسأل عن عادل إمام، إلهام شاهين، يسرا، سعيد صالح، سمير غانم، محمد هنيدي، والعديد من الفنانين..المغاربة شعب يعشق الفكاهة بشكل عام، وهم دائما يقولون إنهم تعلموها من المصريين، بل ويبادرون بإلقاء «النكتة المصرية» بشكل عفوي وتلقائي يزيدها بهجة.
طنجة ـ مدينة المدائن
مرت الرحلة في لمح البصر ووصل القطار محطته الأخيرة وكنا نودع بعضنا البعض كأننا رفاق لأشهر عدة لا لمجرد ساعتين، حالة من البهجة تغمرك وكأنك في قطار من القاهرة للإسكندرية مع رفاق العمر... وصل البراق إلى عاصمة المدائن صاحبة التاريخ والحاضر، تتغير أزمانها ولا تتغير، مدينة تسكنك إن لم تسكنها، هي طنجة الساحرة، حين تسير بين أزقتها ستجد رائحة القاهرة القديمة، وباريس، ومدريد، هنا يسير العربي والأوروبي وجميع الجنسيات بين أزقة المدينة العتيقة، وكل زاوية فيها لها سحرها التاريخي ورائحة البحر، وجوه الناس تزينها الابتسامة، ولم لا فكل نافذة هنا في المدينة العتيقة تطل منها الزهور بألوانها الزاهية، وحوريات طنجة الهاربات من الجنة إلى الأرض يبعثن السعادة في كل أرجاء المدينة.
هنا ولد ابن بطوطة الذي طاف بلاد العالم وترك عاصمة المدائن التي تعد ملتقى مدن العالم، هنا ذاكرة «جان جينيه»، ديلاكروا، تينسي وليامز، بول باولز ومحمد شكري ومحمد مرابط. هنا تغزل الشعراء والأدباء وكتبوا قصائدهم ووقعوا في غرام المدينة الساحرة، كما وقعت أنا..من هنا انطلق طارق بن زياد نحو الأندلس، وهنا عاد المطرودون من الجزيرة الأيبيرية...هنا جبل موسى بن نصير ومغارة كاليبسو وعشرات المعالم التاريخية...هنا خزائن وأسرار المغرب القديم، من أعلى نقطة تشاهد الأندلس وتستعيد معه كل ما قرأته عن غرناطة وكل ما دار هنا... شيء لا يعادله وصف حين تقف على مملوءة بالسعر والحب والشغف.
عبر شوارعها الضيقة وما بين الصعود والهبوط التي تشبه منحنيات جسد أجمل أميرات الأندلس، اصطحبني الصديق رشيد ساري إلى مقهى حنفطة والتقينا بالصديقين المصري ربيع مدين والصديق المغربي محمد العربي المزوز.
الأتاي لا يشرب على عجل
لكل مكان سره وسر مقهى «حنفطة» في «الأتاي المغربي» كأس كبيرة لون الشاي فيها ما بين البني والأصفر تزينه «كمشة» النعناع وأعشاب أخرى يختلف مذاقها أشهى من مذاق النبيذ ويبقى ما بقي مذاق الشهد.
هنا لا يشرب «الأتاي» على عجل، كأسك المعطرة بالنعناع وحوريات طنجة الهاربات من البحر إلى المقهى، عيونهن الزرقاء والخضراء والعسلية، الشقراوات والبيضاوات والسمراوات من جنسيات متعددة...هنا أنت بحاجة لشرب كأسك على مهل وإمتاع عينيك بكل ما هو جميل من حولك، بمقهى تغطيه الأشجار الشامخة، وتحضر فيه رائحة كل المدن والثقافات أيضا.. هنا شعرت أن الوقت غير كاف لتدوين كل ما يمكن أن تقع عليه عينك..
بعد نحو 20 دقيقة هممنا بالذهاب إلى متحف ابن بطوطة... اللقاء المنتظر مع من طاف مدن بلاد الله، أنا اليوم على موعد معه في أرضه ووطنه، بكل شغف واشتياق وددت أن أقول له، اليوم تشد الرحال إليك وإلى مدينتك، كان وقت العمل الرسمي انتهى ولا يسمح بالدخول بعدها، همس الصديق العربي المزوز في أذن الحارس«صديقنا جاء من مصر للتو ويريد أن يرى المتحف»..ابتسم الحارس ابتسامة عريضة وفتح الباب بحفاوة ولسان حاله يقول: «لأجل مصر تفتح الأبواب»...هنا في المتحف قصة أخرى وشعور آخر تأخذك في رحلة مع ابن بطوطة ولسان حالي يقول: كيف ترك عاصمة المدائن ورحل يبحث عن غيرها بينما يبحث العالم عن طنجة.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر منقول وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.